النـص :
سرور ميرزا
كتب كولنجوود قائلا « فاذا كان قد قيل عن الفلسفة انها ام العلوم فحري بنا القول ان التاريخ هو ابو العلوم، فالتاريخ هو جامع لكل الاحداث والوقائع والعلوم ومجريات الحياة». ويستدرك ليقول «مهمة التاريخ هي البحث عن جوهر الاشياء وحقيقتها التي كانت قد انصبت عليها جهود الانسان في الماضي، رغبة منه في تقويمها».
التظاهر تعبير عن الرأي مجموعاً بضغط من أجل تحقيق مطلب، للمواطن كأحد أشكال المشاركة السياسية، والتظاهر فعل سياسي جماعي، كما أنه يتطلب تنظيماً وتحديداً للأولويات، وتلك من السمات المهم تواجدها في أي مجتمع وقد يكون هدف التظاهر التأييد أو الاحتجاج، ينبثق الحق في التظاهر والاحتجاج عن عدة حقوق مختلفة أساسية يتمتع بها الإنسان، التظاهر هو أحد حقوق الإنسان الذي يظهر نتيجة عدد من حقوق الإنسان المعترف بها، إن حق حرية التجمع قد يتضمن حق التظاهر، ولا يوجد أي آلية لحقوق الإنسان أو دستور يمنح الحق المطلق للتظاهر، إلا أن العديد من لوائح حقوق الإنسان والدساتير تنسب حق التظاهر إلى حرية التجمع أو حرية التنظيم وحرية الكلام والتي ينص عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدساتير في الكثير من الدول، في حين لا يمنح أي قانون لحقوق الإنسان أو دستور وطني الحق المطلق في التظاهر، إلا أن هذا الحق قد يكون مظهرًا من مظاهر حرية التجمع وحرية التنظيم والحق في حرية التعبير وستستمّ الاحتجاجات ويستمر فرض القيود عليها من قبل الحكومات، وثقافة التظاهر، هي المسؤولة عن طبيعة هذا النشاط المجتمعي الإحتجاجي، فمن الممكن ان تثيرها ثقافة عنف تؤدي بها وبالمظاهرات الى الصدام والعنف، وثمة العكس عندما تكون الثقافة التي تقف وراء المظاهرات، ثقافة سلمية هدفها الاول والأخير تطوير حياة المجتمع، وبناء ركائز الدولة الحديثة، وفق سبل البناء التي تواكب ملامح ومستجدات العصر.المُظاهرة هي قيام مجموعة من الأشخاص بالاحتجاج لأسباب سياسية أو اقتصادية أو مهنية وهي خروج الناس إلى الطريق العام من أجل المطالبة بحقوقهم وضمان حصولهم عليها، حيث أنها ترتبط بحالة ما وتؤدي إلى خروج الأفراد في مظاهرة من أجل المطالبة بحق ما.يدون التاريخ بان أول التظاهرات الاحتجاجية التي عرفها العراق منذ نشوء الدولة والتي أخذت عدة أشكال (اقتصادية، سياسية دينية) ومرت بعدة مراحل من التأطير والقوة، انفجرت في عام 1948 حيث اشتركت جميع أطراف الحركة الوطنية ومنها بعض الاحزاب بأول انتفاضاته كرد فعل ضد توقيع اتفاقية بورت سموث بين رئيس الوزراء صالح جبر وارنست بيفن وزير الخارجية البريطاني سرعان ما تحولت إلى معارك بين الشعب والحكومة، ومنها: واقعة الكلية الطبية، معركة كلية الهندسة، معركة الجسر، ومعركة باب المعظم، وحدث في أثنائها عصيان عام أغلقت خلاله جميع المرافق العامة والخاصة، وسقط في هذه التظاهرات المئات من الطلبة والمواطنين العاديين، بين قتيل وجريح، نتيجة استخدام الذخيرة الحية من جانب شرطة النظام، ومن بين الضحايا: قيس الألوسي وشمران علوان وجعفر الجواهري، قد كان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، من أشد المحرضين على إسقاطه بقصائده التي تلهب مشاعر المتظاهرين، وقد استشهد شقيقه جعفر برصاص شرطة صالح جبر، فرثاه بقصيدة عصماء تجاوزت المئة بيت، أثارت حماس الجماهير، مطلعها:ـ
اتعلم أم أنت لا تعلمُ
بأن جراح الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدعي قولةً
وليس كآخر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع
اريقوا دماءكم تطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين
أهينوا لئامكمُ تكرموا
فالانتفاضة كانت تعبير حي للوحدة الوطنية بأسرها، ساندها الرأي العام العراقي كله، بعيدا عن النعرات المذهبية والعرقية، التي رعاها ونماها وقوى جذورها المستعمر والعملاء آنذاك، استقال عدد من النواب والوزراء مما أضطر الوصي إلى إقالة الوزارة وتكليف السيد محمد الصدر بتشكيلها. وقد قررت الوزارة الجيدة إلغاء معاهدة بورت سموث. ومع أن رئيس الوزراء الجديد حاول عقد معاهدة جديدة أخرى مع بريطانيا، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب العراقي في المقام الأول، غير أن بريطانيا رفضت إجراء مفاوضات بهذا الشأن عقابا للشعب العراقي على إجهاض معاهدة بورت سموث، التي ظلت نافذة حتى انتهى موعد سريانها، في عام 1951، حيث تم التوقيع على ذلك في 4 نيسان/ أبريل، اثبتت انتفاضة العراقيين أنها دقت بصلابة اكبر إسفين في نعش السياسة الخارجية البريطانية في المشرق العربي كله، واسقطت بيد المتعاونين مـع السياسة البريطانية كل المحاولات اليائسة.
كان تفاعل الشعب العراقى مع قرار تأميم قناة السويس رائعا، فى الوقت الذى اتسم الموقف الرسمى بالتناقض، إذ كان ظاهره التأييد وباطنه الرفض والضيق، تفاعلت الأحزاب العراقية الوطنية والقومية مع القضية المصرية فى كل مراحلها، فأيدت سياسة مصر، وانتقدت وسائل الدول الغربية لترهيب الحكومة المصرية سواء كان ذلك دبلوماسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، ولم تترك مناسبة إلا كانت بجانب مصر حكومة وشعبا، فضلا عن أنها تزعمت الحركة الشعبية العراقية، وقدمت دورا ملموسا فى تشجيع العراقيين على الخروج عن موقف حكومتهم السلبى، وقادتهم نحو تأييد القضية المصرية، وتقدمت الاحزاب حركة المظاهرات والإضرابات التى شهدتها الساحة العراقية خلال تلك الفترة، كما رحبت الأوساط الشعبية كافة بقرار التأميم، وأبرقت فئات نقابية وشعبية عدة للسلطات المصرية فى بغداد والقاهرة مؤيدة ومرحبة، واستنكرت صمت حكومتها فى بادئ الأمر إزاء القضية، كما توافدت جموع غفيرة من الشعب العراقى على مقر السفارة المصرية ببغداد لتقديم التهانى بهذه المناسبة، وأعربوا عن استعدادهم للتطوع للقتال بجانب الجيش المصرى للدفاع عن القناة إذا ما اعتدى عليها، العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 الذي شجبته جميع الحكومات العربية عدا حكومة العراق وقامت حكومات السعودية وسوريا بقطع علاقتهما بفرنسا وبريطانيا، كانت الحكومة العراقية في واد والشعب في واد آخر، فخرجت المظاهرات صباح يوم الخميس الاول من تشرين الاول وتظاهر طلبة الكليات والمعاهد العالية في مختلف مناطق بغداد، وحدثت مصادمات بين الشرطة والجماهير وتجددت التظاهرات صباح يوم السبت 3 تشرين الثاني واتسمت بالسعة والشمول حيث اشترك فيه اغلبية طلبة المعاهد والكليات والمدارس الثانوية والمتوسطة فتحولت الى انتفاضة جماهيرية عارمة شملت مناطق متعددة من العراق وشاركت فيها جماهير واسعة من مختلف الفئات الشعبية، واستشهد اثنان من المتظاهرين في منطقة باب المعظم برصاص الشرطة واستمرت المظاهرات اليومية حتى نهاية العام نفسه وامتدت التظاهرات الجماهيرية الى خارج بغداد الى النجف وكربلاء والموصل والعمارة والبصرة والحلة وبعقوبة، ورافق الاضراب والتظاهرات في بغداد ومدن العراق الاخرى حملة من المذكرات التي قدمت الى الملك من قبل الاحزاب السياسية والشخصيات الوطنية ورجال الدين وكلها تنتقد الحكومة لموقفها من العدوان على مصر ولاجراءاتها القمعية القاسية ضد الحركة الوطنية لقد تضامن شعبنا العراقي بمختلف اتجاهاته وانتماءاته تضامنا شاملا وكاملا مع شقيقه شعب مصر العربي مستنكرة العدوان وعمت الأضرابات جميع المدارس والكليات واعتصم طلبة كلية الزراعة في قاعات القسم الداخلي، والملاحظ ان تميزها كان لدور الشباب الرئيسي فيها وتمركزها في المدن الكبرى وأحيائها الشعبية على وجه التحديد.
|